فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَالسماء ذَاتِ البروج (1)}
اختلف الناس في {البروج}، فقال الضحاك وقتادة: هي القصور، ومنه قول الأخطل: البسيط:
كأنها برج رومي يشيّده ** لز بجص وآجر وأحجار

وقال ابن عباس: {البروج}: النجوم، لأنها تتبرج بنورها، والتبرج: التظاهر والتبدي، وقال الجمهور وابن عباس أيضًا: {البروج} هي المنازل التي عرفتها العرب وهي اثنا عشر على ما قسمته العرب وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً، وقال قتادة معناه: ذات الرمل، والسماء يريد أنها مبنية في السماء، وهذا قول ضعيف، {واليوم الموعود} هو يوم القيامة باتفاق، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: الموعود به، وقوله: {ومشهود}، معناه: عليه أو له أو فيه، وهذا يترتب بحسب الحساب في تعيين المراد بـ: (شاهد ومشاهد)، فقد اختلف الناس في المشار إليه بهما فقال ابن عباس: الشاهد الله تعالى، والمشهود يوم القيامة، وقال ابن عباس والحسن بن علي وعكرمة: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، قال الله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً} [الأحزاب: 45، الفتح: 8]، وقال في يوم القيامة {وذلك يوم مشهود} [هود: 103]، وقال مجاهد وعكرمة أيضًا: الشاهد آدم وجميع ذريته، والمشهود يوم القيامة، ف {شاهد} اسم جنس على هذا، وقال بعض من بسط قول مجاهد وعكرمة: {شاهد} أراد به رجل مفرد أو نسمة من النسم، ففي هذا تذكير بحقارة المسكين ابن آدم، والمشهود يوم القيامة، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن عباس أيضًا: الشاهد يوم عرفة، ويوم الجمعة، والمشهود يوم القيامة، وقال ابن عباس وعلى وأبو هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة: {شاهد} يوم الجمعة، {ومشهود} يوم عرفة، وقال ابن عمر: {شاهد} يوم الجمعة، {ومشهود} يوم النحر، وقال جابر: {شاهد} يوم الجمعة، {ومشهود} الناس، وقال محمد بن كعب: الشاهد أنت يا ابن آدم، والمشهود الله تعالى، وقال ابن جبير بالعكس، وتلا: {وكفى بالله شهيداً} [النساء: 79-166، الفتح: 28]، وقال أبو مالك: الشاهد عيسى، والمشهود أمته، قال الله تعالى: {وكنت عليهم شهيداً} [المائدة: 117] قال ابن المسيب: {شاهداً} يوم التروية، {ومشهود} يوم عرفة، وقال بعض الناس في كتاب النقاش: الشاهد يوم الأثنين والمشهود يوم الجمعة، وذكره الثعلبي، وقال علي بن أبي طالب: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر، وعنه أيضًا: {شاهد} يوم القيامة {ومشهود} يوم عرفة.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «{شاهد} يوم الجمعة {ومشهود} يوم عرفة».
قاله على وأبو هريرة والحسن، وقال إبراهيم النخعي: الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد: ووصف هذه الأيام بـ: {شاهد} لأنها تشهد لحاضريها بالأعمال، والمشهود فيما مضى من الأقوال بمعنى المشاهد بفتح الهاء، وقال الترمذي: الشاهد الملائكة الحفظة، والمشهود عليهم الناس، وقال عبد العزيز بن يحيى عند الثعلبي: الشاهد محمد، والمشهود عليهم أمته نحو قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41] أي شاهداً، قال: الشاهد الأنبياء: والمشهود عليهم أممهم، وقال الحسن بن الفضل: الشاهد أمة محمد، والمشهود عليهم قوم نوح، وسائر الأمم حسب الحديث المقصود في ذلك، وقال ابن جبير أيضًا: الشاهد، الجوارح التي تنطق يوم القيامة فتشهد على أصحابها، والمشهود عليهم أصحابها، وقال بعض العلماء: الشاهد الملائكة المتعاقبون في الأمة، والمشهود قرآن الفجر، وتفسيره قول الله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء: 87] وقال بعض العلماء: الشاهد، النجم، والمشهود عليه الليل والنهار، أي يشهد النجم بإقبال هذا وتمام هذا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم»، وقال بعض العلماء: الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم، والمشهود به الوحدانية وأن الدين عند الله الإسلام، وقيل الشاهد: مخلوقات الله تعالى، والمشهود به وحدانيته، وأنشد الثعلبي في هذا المعنى قول الشاعر أبو العتاهية: المتقارب:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الوأحد

وقيل المعنى: فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له، فهو على جهة الدعاء بحسب البشر، لا أن الله يدعو على أحد، وقيل عن ابن عباس معناه: لعن، وهذا تفسير بالمعنى، وقيل هو إخبار بأن النار قتلتهم، قاله الربيع بن أنس، وسيأتي بيانه، واختلف الناس في {أصحاب الأخدود}، فقيل: هو قوم كانوا على دين كان لهم ملك فزنى بأخته، ثم حمله بعض نسائه على أن يسن في الناس نكاح البنات والأخوات، فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصيته فرقة فخَدَّ لهم أخاديد، وهي حفائر طويلة كالخنادق، وأضرم لهم ناراً وطرحهم فيها، ثم استمرت المجوسية في مطيعيه، وقال علي بن أبي طالب: {الأخدود}، وملك حمير، كان بمزارع من اليمن، اقتتل هو والكفار مع المؤمنين، ثم غلب في آخر الأمر فحرقهم على دينهم إذا أبوا دينه، وفيهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت، فقال لها الطفل: امضي في النار فإنك على الحق، وحكى النقاش عن علي رضي الله عنه، أن نبيّ {أصحاب الأخدود} كان حبشيا، وأن الحبشة بقية {أصحاب الأخدود} وقيل: {أصحاب الأخدود} ذو نواس في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير، وقيل: كان {أصحاب الأخدود} في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: ورأيت في بعض الكتب أن {أصحاب الأخدود} هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم المائة، ويعترض هذا القول بقوله تعالى: {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود}، فينفصل عن هذا الاعتراض بأن هذا الكلام من قصة {أصحاب الأخدود}، وأن المراد بقوله: {وهم} قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات، واختلف الناس في جواب القسم، فقال بعض النحاة: هو محذوف لعلم السامع به، وقال آخرون: هو في قوله تعالى: {قتل}، والتقدير لقتل، وقال قتادة: هو في قوله: {إِنَّ الَّذينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عذاب جَهَنَّمَ}. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَالسماء ذَاتِ البروج (1)}
قسم أقسم الله به جل وعز.
وفي {البروج} أقوال أربعة: أحدها ذات النجوم؛ قاله الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك.
الثاني القُصُور، قاله ابن عباس وعِكرمة ومجاهد أيضًا.
قال عِكرمة: هي قُصور في السماء.
مجاهد: {البروج} فيها الحرس.
الثالث ذات الخلق الحسن؛ قال المِنهال بن عمرو.
الرابع ذات المنازل؛ قاله أبو عبيدة ويحيى بن سلام.
وهي اثنا عشر بُرْجاً، وهي منازل الكواكب والشمس والقمر. يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم؛ فذلك ثمانية وعشرون يوماً، ثم يستسِرّ ليلتين؛ وتسير الشمس في كل برج منها شهراً.
وهي: الحَمَل، والثَّورُ، والجَوزاء، والسَّرَطان، والأسد، والسُّنْبلة، والمِيزان، والعَقْرب، والقَوسُ والجَدْي، والدلو، والحُوت.
و{البروج} في كلام العرب: القصور؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
وقد تقدّم.
قوله تعالى: {واليوم الموعود} أي الموعود به.
وهو قَسَم آخر، وهو يوم القيامة؛ من غير اختلاف بين أهل التأويل.
قال ابن عباس: وُعِد أهلُ السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.
{وَشَاهِدٍ ومشهود} اختلف فيهما؛ فقال على وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة.
وهو قول الحسن.
ورواه أبو هُريرة مرفوعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة..». خرّجه أبو عيسى الترمذي في جامعه، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى ابن عُبيدة، وموسى بن عبيدة يُضَعَّف في الحديث، ضَعَّفه يحيى بن سعيد وغيره.
وقد رَوَى شُعبة وسفيان الثوريّ وغير وأحد من الأئمة عنه.
قال القشَيريّ فيوم الجمعة يشهد على كل عامل بما عمل فيه.
قلت: وكذلك سائر الأيام والليالي؛ فكل يوم شاهد، وكذا كل ليلة؛ ودليله ما رواه أبو نعِيم الحافظ عن معاوية بن قُرّة عن مَعْقِل بن يسار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا يُنادَى فيه: يا بن آدم، أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غد، فإني لو قد مضيتُ لم ترني أبداً، ويقول الليل مثلَ ذلك» حديث غريب من حديث معاوية، تفرّد به عنه زيد العَمِّي، ولا أعلمه مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد.
وحكى القُشَيريّ عن ابن عمر وابن الزُّبير أن الشاهد يوم الأضحى.
وقال سعيد ابن المسيب: الشاهد: التَّروِية، والمشهود: يوم عَرَفة.
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم النحر.
وقاله النخعيّ.
وعن علي أيضًا: المشهود يوم عرفة.
وقال ابن عباس والحسين ابن علي رضي الله عنهما: المشهود يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {ذلك يوم مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يوم مَّشهود} [هود: 103].
قلت: وعلى هذا اختلفت أقوال العلماء في الشاهد، فقيل: الله تعالى؛ عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جُبير؛ بيانه: {وكفى بالله شهيداً} [النساء: 79]، {قل أي شيء أكبر شهادة قلِ الله شهيد بينِي وبينكم} [الأنعام: 19] وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس أيضًا والحسين بن علي؛ وقرأ ابن عباس {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشهيد وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
وقرأ الحسين {يا أيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً} [الأحزاب: 45].
قلت: وأقرأ أنا {ويكون الرسول عليكُمْ شهيداً} [البقرة: 143].
وقيل: الأنبياء يَشْهَدون على أممهم؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشهيد} [النساء: 41].
وقيل: آدم.
وقيل: عيسى بن مريم؛ لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شهيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117].
والمشهود: أمته.
وعن ابن عباس أيضًا ومحمد بن كعب: الشاهد الإنسان؛ دليله: {كفى بِنفسِك اليوم عليك حسِيباً} [الإسراء: 14] مقاتل: أعضاؤه؛ بيانه: {يوم تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمّة، والمشهود سائر الأمم؛ بيانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ على الناس} [البقرة: 143].
وقيل: الشاهد: الحفَظَة، والمشهود: بنو آدم.
وقيل: الليالي والأيام.
وقد بيناهـ.
قلت: وقد يشهد المالُ على صاحبه، والأرضُ بما عُمل عليها؛ ففي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خَضِر حُلْو، ونِعم صاحبُ المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذْه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يَشْبَع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة» وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يومئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] قال: أتدرون ما أخبارُها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها» قال حديث حسن غريب صحيح.
وقيل: الشاهد الخلْق، شهدوا لله عزّ وجلّ بالوحدانية.
والمشهود له بالتوحيد هو الله تعالى.
وقيل: المشهود يوم الجمعة؛ كما رَوَى أبو الدّرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثِروا على من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة..». وذكر الحديث. خرّجه ابن ماجه وغيره.
قلت: فعلى هذا يوم عرفة مشهود، لأن الملائكة تشهده، وتنزل فيه بالرحمة.
وكذا يوم النحر إن شاء الله.
وقال أبو بكر العطار: الشاهد الحجر الأسود؛ يشهد لمن لمسه بصدق وإخلاص ويقين.
والمشهود الحاجّ.
وقيل: الشاهد الأنبياء، والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم؛ بيانه: {وإذ أخذ الله ميثاق النبِيين لما آتيتكم مِن كتاب وحِكمةٍ} إلى قوله تعالى: {وأَنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81].
قوله تعالى: {قتل أَصْحَابُ الأخدود} أي لعن.
قال ابن عباس: كل شيء في القرآن {قتل} فهو لُعِن.
وهذا جواب القسم في قول الفرّاء واللام فيه مضمرة، كقوله: {والشمس وضحاها}- ثم قال- {قد أفلح من زكاها} [الشمس: 1-9] أي لقد أفلح.
وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج؛ قاله أبو حاتم السجستانيّ.
ابن الأنباري: وهذا غَلَط؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: والله قام زيد؛ على معنى قام زيد والله.
وقال قوم: جواب القسم {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} [البروج: 12] وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال بينهما.
وقيل: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ} [البروج: 10].
وقيل: جواب القسم محذوف، أي والسماء ذات البروج لَتُبْعَثُنَّ.
وهذا اختيار ابن الأنباري.
و{الأخدود}: الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد.
ومنه الخدّ لمجاري الدموع، والمخدّة؛ لأن الحدّ يوضع عليها.
ويقال: تخدّد وجه الرجل: إذا صارت فيه أخاديد من جراح، قال طَرَفة:
ووجهٌ كأنّ الشمسَ حلتْ رداءها ** عليه نَقيُّ اللونِ لم يَتَخدّدِ

{النار ذَاتِ الوقود} {النار} بدل من {الأخدود} بدل الاشتمال.
و{الوقود} بفتح الواو قراءة العامة، وهو الحَطَب.
وقرأ قتادة وأبو رجاء ونصر بن عاصم (بضم الواو) على المصدر؛ أي ذات الاتقاد والالتهاب.
وقيل: {ذات الوقود} بأبدان الناس.
وقرأ أشهب العُقَيلي وأبو السَّمال العدويّ وابن السميقع {النار ذات} بالرفع فيهما؛ أي أحرقتهم النار ذات الوقود.
{إِذْ هُمْ عليها قعود} أي الذين خدّدوا الأخاديد وقعدوا عليها يلقون فيها المؤمنين، وكانوا بنجرانَ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلفت الرواة في حديثهم. والمعنى متقارب.
ففي صحيح مسلم عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر؛ فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاماً يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سَلَك، راهب، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه؛ فكان إذا أتي الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه؛ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحرَ فقل: حبسني أهلي. وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتي على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس؛ فرماها فقتلها ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني؛ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى؛ فإن ابتليت فلا تدلَّ على. وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء. فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفِي الله؛ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك؛ فآمن بالله فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: مَنْ ردّ عليك بصرك؟ قال ربيِّ. قال: ولك رب غيري؟! قال: ربي وربُّك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دَلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! أقد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟! قال: إنا لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب؛ فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مَفْرِق رأسِه فشقه حتى وقع شِقاهـ. ثم جيء بِجلِيس الملِكِ فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبى فوضع المنشار في مَفْرِق رأسه، فشقه به حتى وقع شِقاهـ. ثم جيء بالغلام فقبَل له: ارجع عن دينك، فأبي فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه فقال: إذهبوا به إِلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذِروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ فذهبوا به فصعِدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا. وجاء يمشي إلى الملِك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانِيهم الله.
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: إذهبوا به فاحملوه في قُرْقور، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه؛ فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت؛ فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا.
وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرُك به.
قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ وأحد، وتصلبني على جِذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني؛ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناسَ في صعيد وأحد، وصلبه على جِذْع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام؛ ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! آمنا برب الغلام! فأتى الملِك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد واللَّهِ نزل بك حَذرك، قد آمن الناس؛ فأمر بالأخدود في أفواه السِّكك، فخدّت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا؛ حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمَّة اصبري فإنِك على الحق»
.
أخرجه الترمذي بمعناهـ.
وفيه: «وكان على طريق الغلام راهب في صومعة» قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع كانوا يومئذ مسلمين.
وفيه: «أن الدابة التي حَبَستِ الناس كانت أَسداً، وأن الغلام دُفن قال فيذكر أنه أُخرج في زمن عمر ابن الخطاب وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل» وقال: حديث حسن غريب.
ورواه الضحاك عن ابن عباس قال: كان مَلِك بنَجْران، وفي رعِيته رجل له فتى، فبعثه إلى ساحر يعلمه السحر، وكان طريق الفتى على راهب يقرأ الإنجيل؛ فكان يعجبه ما يسمعه من الراهب، فدخل في دين الراهب؛ فأقبل يوماً فإذا حية عظيمة قطعت على الناس طريقهم، فأخذ حجراً فقال باسم الله رب السموات والأرض وما بينهما؛ فقتلها.
وذكر نحو ما تقدم.
وأن الملك لما رماه بالسهم وقتله قال أهل مملكة الملك: لا إله إلا إله عبد الله بن ثامر؛ وكان اسم الغلام، فغضب الملك، وأمر فخُدّت أخاديد، وجُمع فيها حطب ونار، وعَرَض أهل مملكته عليها، فمن رجعِ عن التوحيد تركه، ومن ثبت على دينه قذفه في النار.
وجيء بامرأة مُرْضعِ فقيل لها ارجعي عن دينك وإلا قذفناك وولدك قال فأشفقت وهمَّت بالرجوع، فقال لها الصبيّ المُرْضَع: يا أمي، أثبتي على ما أنت عليه، فإنما هي غميضة؛ فألقَوها وابنها.
وروي أبو صالح عن ابن عباس أن النار ارتفعت من الأخدود فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذِراعاً فأحرقتهم.
وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبّع الحميري، وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً وأحرقهم فيه.
حكاه الماورديّ، وحكى الثعلبيّ عنه أن أصحاب الأخدود من بني إسرائيل، أخذُوا رجالاً ونساء، فخدّوا لهم الأخاديد، ثم أوقدوا فيها النار، ثم أقيم المؤمنون عليها.
وقيل لهم: تكفرون أو تُقْذَفون في النار؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه؛ وقاله عَطِية العوفِيّ.
ورُوي نحو هذا عن ابن عباس.
وقال علي رضي الله عنه: إن مِلكاً سُكِر فوقع على أخته، فأراد أن يجعل ذلك شرعاً في رعِيته فلم يقبلوا، فأشارت إليه أن يخطُب بأن الله عز وجل أحل نكاح الأخوات، فلم يُسمع منه.
فأشارت إليه أن يخدّ لهم الأخدود، ويلقي فيه كل من عصاهـ.
ففعل.
قال: وبقاياهم ينكِحون الأخوات وهم المَجُوس، وكانوا أهل كتاب.
ورُوي عن علي أيضًا أن أصحاب الأخدود كان سببهم أن نبياً بعثه الله تعالى إلى الحبشة، فاتبعه ناس، فحذّ لهم قومهم أخدوداً، فمن اتبع النبيّ رمي فيها، فجيء بامرأة لها بُنَيّ رضيع فجزِعت، فقال لها: يا أمّاه، امضي ولا تجزعي.
وقال أيوب عن عِكرمة قال: {قتل أَصْحَابُ الأخدود} قال: كانوا من قومك من السجِستان.
وقال الكلبيّ: هم نصارى نجران، أخَذوا بها قوماً مؤمنين، فخدّوا لهم سبعة أخاديد، طول كل أخدود أربعون ذراعاً، وعرضه اثنا عشر ذراعاً.
ثم طرح فيه النفط والحطب، ثم عرضوهم عليها؛ فمن أبى فذقوه فيها.
وقيل: قوم من النصارى كانوا بالقُسْطنطينية زمان قُسْطَنطين.
وقال مقاتل: أصحاب الأخدود ثلاثة؛ وأحد بنجران، والآخر بالشام، والآخر بفارس.
أمّا الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي، وأما الذي بفارس فبختنصر، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نُواس.
فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران.
وذلك أن رجلين مسلمين كان أحدهما بتهامة، والآخر بنجران، آجر أحدهما نفسه، فجعل يعمل ويقرأ الإِنجيل؛ فرأت ابنة المستأجِر النورَ في قراءة الإنجيل، فأخبرت أباها فأسلم.
وبلغوا سبعة وثمانين بين رجل وامرأة، بعد ما رفع عيسى، فخدّ لهم يوسف بن ذي نُواس بن تُبَّعٍ الحِميرِيّ أخدوداً، وأوقد فيه النار؛ وعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، وقال: من رجع عن دين عيسى لم يقذف.
وإن امرأة معها ولدها صغير لم يتكلم، فرجعت، فقال لها ابنها: يا أمّاه، إني أرى أمامك ناراً لا تُطْفَأ، فقَذَفا جميعاً أنفسهما في النار، فجعلها الله وابنها في الجنة.
فقُذِف في يوم وأحد سبعة وسبعون إنساناً.
وقال ابن إسحاق عن وهب بن منبه: كان رجل من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام، يقال له قيميون، وكان رجلاً صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً في القرى، لا يُعْرَف بقرية إلا مضى عنها، وكان بَنَّاء يعمل الطين.
قال محمد بن كعب القُرَظيّ: وكان أهل نَجْرانَ أهل شرك يعبدون الأصنام، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر؛ فلما نزل بها قيميون، بنى بها خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يبعثون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر؛ فبعث إليه الثامرُ عبدَ الله ابن الثامر، فكان مع غلمان أهل نجران، وكان عبد الله إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من أمر صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحَّد الله وعبده، وجعل يسأله عن اسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه إياه وقال: يا بن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه؛ وكان أبو الثامر لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان.
فلما رأى عبد الله أن الراهب قد بخِل عليه بتعليم اسم الله الأعظم، عمد إلى قِداح فجمعها، ثم لم يُبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتبه في قِدْح، لكل اسم قِدْح؛ حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قِدْحاً قِدْحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدحه، فوثب القِدْح حتى خرج منها لم يضرَّه شيء؛ فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم الذي كتمه إِياه؛ فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع.
فقال له: يا بن أخي، قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله ابن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضُرُّ إلا قال: يا عبد الله، أتوحِّد الله وتدخل في ديني، فأدعوَ الله لك فيعافِيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم؛ فيوحِّد الله ويسلم، فيدعو الله له فيُشْفَى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي؛ حتى رُفِع شأنه إلى ملكهم، فدعاه فقال له: أفسدت على أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، فلأمثلنّ بك.
قال: لا تقدر على ذلك؛ فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح عن رأسه، فيقع على الأرض ليس به بأس.
وجعل يبعث به إلى مياه نجرانَ، بحار لا يلقَى فيها شي إلا هلك، فيلقَى فيها فيجرج ليس به بأس؛ فلما غلبه قال له عبد الله ابن الثامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحِّد الله وتؤمن بما آمنت به؛ فإنك إن فعلت ذلك سُلِّطت على وقتلتني.
فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادته، ثم ضربه بعصا فشجه شجة صغيرة ليست بكبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانَه، واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحُكْمه. ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث؛ فمن ذلك كان أصل النصرآنية بنجران.
فسار إليهم ذو نُواس اليهوديّ بجنوده من حِمْير، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود؛ فحَّرق بالنار وقتل بالسيف، ومَثَّل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفاً.
وقال وهب بن منبه: اثني عشر ألفاً.
وقال الكلبيّ: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفاً.
قال وهب: ثم لما غَلَب أرياط على اليمن خرج ذو نُواس هارباً، فاقتحم البحر بفرسه فغرِق.
قال ابن إسحاق: وذو نُواس هذا اسمه زُرْعة بن تُبّان أسعد الحميريّ، وكان أيضًا يسمى يوسف، وكان له غدائر من شعرٍ تَنُوسُ، أي تضطرب، فسمى ذا نُواس؛ وكان فعل هذا بأهل نجران، فأفلت منهم رجل اسمه دَوْسٌ ذو ثَعْلَبان، فساق الحبشة لينتصر بهم، فملكوا اليمن وهلك ذو نواس في البحر؛ ألقى نفسه فيه؛ وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:
أَتُوعِدني كأنك ذو رُعين ** بأَنعم عِيشةٍ أو ذو نُواسِ

وكائِنْ كان قبلَك من نَعِيم ** ومُلْكٍ ثابتٍ في الناس راسِ

قديمٍ عهدُه من عهدِ عادٍ ** عظيم قاهرِ الجبروت قاسِ

أزال الدهرُ مُلْكَهم فأضحى ** يُنَقَّل من أناس في أناس

وذو رُعين: ملك من ملوك حمير.
ورُعين حصن له وهو من ولد الحرث بن عمرو بن حمير بن سَبَأ.
مسألة:
قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وَحَّد قبلهم من الشدائد، يُؤنِّسهم بذلك.
وذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها، ليتأسّوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحق وتمسكه به، وبذله نفسه في حق إظهار دعوته، ودخول الناس في الدين مع صِغر سنه وعظم صبره.
وكذلك الراهب صبر على التمسك بالحق حتى نُشِر بالمنشار.
وكذلك كثير من الناس لما آمنوا بالله تعالى ورسخ الإيمان في قلوبهم، صبروا على الطرح في النار ولم يرجعوا في دينهم.
ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا، حَسْب ما تقدم بيانه في سورة (النحل).
قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال الله تعالى مخبراً عن لقمان: {يا بني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور}: وروى أبو سعيد الخُدرِيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر». خرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، ورَوَى ابن سنجر (محمد بن سنجر) عن أميمة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت أوضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، قال: أوصني: فقال: «لا تشرك بالله شيئاً وإن قُطِّعت أو حُرِّقْت بالنار..». الحديث.
قال علماؤنا: ولقد امتُحِن كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل والصلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك: ويكفيك قصة عاصم وخُبيب وأصحابهما وما لَقُوا من الحروب والمِحَن والقتل والأسر والحرق، وغير ذلك، وقد مضى في (النحل) أن هذا إجماع ممن قوي في ذلك، فتأمله هناك.
قوله تعالى: {قتل أَصْحَابُ الأخدود} دعاءٌ على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة الله تعالى: وقيل: معناه الإخبار عن قتل أولئك المؤمنين، أي إنهم قتلوا بالنار فصبروا: وقيل: هو إخبار عن أولئك الظالمين، فإنه رُوِي أن الله قبض أرواح الذين ألقوا في الأخدود قبل أن يصلوا إلى النار، وخرجت نار من الأخدود فأحرقت الذين هم عليها قعود: وقيل: إن المؤمنين نَجَوا، وأحرقت النار الذين قعدوا، ذكره النحاس، ومعنى {عليها} أي عندها وعلى بمعنى عند: وقيل: {عليها} على ما يدنو منها منها من حافات الأخدود، كما قال:
وباتَ على النارِ النَّدى والمحلَّقُ

العامل في {إِذْ}، {قتل} أي لعنوا في ذلك الوقت: {وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شهود} أي حضور: يعني الكفار، كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبى ألقوه في النار وفي ذلك وصفهم بالقسوة ثم بالجد في ذلك: وقيل: {على} بمعنى مع، أي وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.
قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ}
وقرأ أبو حَيْوة {نَقَمُواْ} بالكسر، والفصيح هو الفتح، وقد مضى في (براءة) القول فيه: أي ما نَقَم الملِك وأصحابه من الذين حَرَّقهم: {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} أي إلا أن يصدّقوا: {بالله العزيز} أي الغالب المنيع: {الحميد} أي المحمود في كل حال.
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} لا شريك له فيهما ولا نديد {والله على كُلِّ شَيْءٍ شهيد} أي عالم بأعمال خلقه لا تخفى عليه خافية. اهـ.